أنا ونيلُنا الخالدُ .. بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي

أنا ونيلُنا الخالدُ .. 

بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي

  بعدما غارتْ النجومُ ، ونامتْ العيونُ ، وخلا كلُّ حبيبٍ بحبيبه ، خلوتُ ونيلنا الخالدُ ذلك النهرُ الذي امتنَّ اللهُ به علينا فجرى بمائه العذبِ ليحييَ القفارَ ، ويروي الأبدانَ ، فألفيته هادئاً صافياً يمرُّ فوقه النسيمُ فيزدادُ لطفاً ، وتغازله نسماتُ الهواءِ فتتمايلُ رقّةً ، وتهبُّ علينا فتشعرنا بالراحةِ ، وتأخذُ بإيدينا إلى سكينةٍ وطمأنينةٍ منقطعةِ النظيرِ ، الأمرُ الذي أغراني بإجراءِ حوارٍ معه ، وجاءَ على النحوِ التالي : 
- من أين تنبعُ يا نيلُ ؟ 
- أنبعُ من الجنّةِ ، ألم تقفْ على قولِ رسولِ اللهِ -  ﷺ-   : " رُفعتْ إليَّ السدرةُ ، فإذا أربعةُ أنهارٍ : نهران ظاهران ، ونهران باطنان ، فأما الظاهران : النيلُ والفراتُ ، وأما الباطنان فنهران في الجنّةِ " رواه البخاري . 
- إذا كنتَ من الجنّةِ ، فكيف صرتَ كأنهارِ الدنيا ؟ 
- أنا من أنهارِ الجنّةِ حقيقةً ، ولكن لمّا نزلتُ إلى الدنيا غلبَ عليَّ طابعُ أنهارها . 
- قالَ هيرودوت : " مصرُ هبةُ النيلِ " ، ومقصوده أنك من وهبتَ مصرَ الحياةَ والوجودَ ، وأنه لولاك ما قامت على هذه البقعةِ من الأرضِ تلك الحضارةَ التي تزهو على أخواتها وتتيهُ فخراً بمنجزاتها ومخرجاتها ، فما رأيك في مقولته ؟ 
- مقولةٌ غيرُ صحيحةٍ ؛ لأني موهوبٌ ، ولستُ بواهبٍ ، ولا يجوزُ نسبةُ الهبةِ إلى الطبيعةِ أو إلى شيءٍ منها ، وما يترتبُ عليَّ من الخيرِ والبركةِ لا يُنسبُ إلا إلى اللهِ ، قال تعالى : { وما بكم من نعمةٍ فمن الله } سورة النحل آية- 16 
- أحسنتَ أحسنَ اللهُ إليك ، وأدام جريانك ، ولكن هناك سؤالٌ يدورُ بخلدي . 
- هاته ، فكلّي آذانٌ مُصغيةٌ . 
- ما قصةُ عروسك ؟ 
-  قبل دخولِ الإسلامِ مصرَ كان ساكنوها يعتقدون أنَّ لي سنّةً لا أجري إلا بها . 
- وما تلك السنّةُ ؟ 
- إذا كانت اثنتي عشرةَ ليلةً خلت من شهر بؤونة -   أي شهر يونيو - عمدوا إلى جاريةٍ بكرٍ ، فأرضوا أبويها ، وجعلوا عليها من الحليّ والثيابِ أفضلَ ما يكونُ ثم ألقوها فيَّ . 
- ومن أبطلَ هذه السنّةَ ؟ 
- عمرو بن العاص - رضي الله عنه - ، فعندما أخبره القبطُ بذلك قال لهم : 
إنَّ هذا مما لا يكونُ في الإسلامِ ، إنَّ الإسلامَ يهدمُ ما قبله . 
- وكيف أبطلها ؟ 
- عندما أقاموا بؤونةَ وأبيبَ ومسرى - شهور أعجمية وتقابل شهر يونيو ويوليو وأغسطس -  ، ولم أجرِ قليلاً ولا كثيراً ، حتى همّوا بالجلاءِ ، كتب إلى عمرَ بنِ الخطابِ بذلك ، فكتب إليه :
 إنك قد أصبتَ بالذي فعلتَ ، وإني قد بعثتُ إليك بطاقةً داخلَ كتابي ، فألقها في النيلِ . فلمّا قدم كتابه أخذَ عمرو البطاقةَ ، فإذا فيها : 
" من عبدِ اللهِ عمرَ أميرِ المؤمنينَ إلى نيلِ أهلِ مصرَ : 
أما بعدُ ، فإن كنتَ إنما تجري من قِبلك ومن أمرك فلا تجرِ ، فلا حاجةَ لنا فيك ، وإن كنتَ إنما تجري بأمرِ اللهِ الواحدِ القهارِ ، وهو الذي يجريك ، فنسألُ اللهَ - تعالى - أن يجريَك " . 
- سبحانَ الله ما أصفى عقيدتهم وأنقاها ! 
- نعم لقد صانوها من رذاذِ الشركِ ، وشوائبِ الإلحادِ ، فدانتْ لهم البلادَ والعبادَ ، وفتحوا نصفَ الأرضِ في أقلِّ من نصفِ قرنٍ . 
- وهل ائتمرَ عمرو بن العاصِ بأمرِ عمرَ بنِ الخطابِ ؟ 
- نعم ، وألقى فيَّ البطاقةَ ، فأصبحوا يومَ السبتِ وقد أجراني اللهُ ستةَ عشرَ ذراعاً في ليلةٍ واحدةٍ ، وقطعَ اللهُ تلك السنّةَ عن أهلِ مصرَ ( القصةُ أوردها ابنُ كثيرٍ في البدايةِ والنهايةِ ج/7 ص 114-115 ) .
- ثمّةَ سوالٌ أخيرٌ ، إذ قد بلغتْ من لدنّي عذراً . 
- لا تثريبَ عليك ، ما هو ؟ 
- هل تتمكنُ إثيوبيا من منعك من الجريانِ خاصةً وقد بنتْ سدَّ النهضةَ بُغيةَ تحقيقِ هذا الأمرِ ؟ 
- إنّك لأكبرُ عندي من أن تسألَ هذا السؤالَ ، فما أجراه اللهُ لا يوقفه إنسانٌ . 
- أشعرتني بالخجلِ ، بوركتَ يا نيلنا ، وأدام اللهُ مجراكَ ، وجعلك سبباً لحياةِ النفوسِ والأبدانِ ، وردَّ عنك وعن مصرَ وأهلها كيدَ الكائدين ، وتدبيرَ الخائنينَ ، وتآمرَ الحاقدينَ والمغرضينَ . 

- اللهم آمين .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدى و العيون بقلم الشاعر هادي صابر عبيد

حرب السادس من أكتوبر: انتصار الإرادة والكرامة العربية بقلم/مرڤت رجب

الوحدة المنتجة المدرسية تنير سماء الشروق كتب عاطف محمد