الفصل الثالث: حين مرَّ الحب عابرًا بقلم الكاتبة هدى حجاجى
الفصل الثالث: حين مرَّ الحب عابرًا
الكاتبة هدى حجاجى
كان الصباح رماديًّا، كأن السماء فقدت لونها.
جلست “هالة” على طرف الطاولة الخشبية الصغيرة، تحتسي قهوتها ببطء، تُقلّب صفحات الجريدة بعينٍ شاردة.
لم تكن تبحث عن شيءٍ بعينه، فقط كانت تهرب من فراغ الصمت، تُسافر في عناوين لا تخصها.
وفجأةً توقّف بصرها عند سطرٍ صغيرٍ في ركنٍ غير لافت،
لكنّه كان كفيلًا أن يُوقف الزمن:
“رحيل الشاعر الأستاذ فتحي... بعد صراعٍ قصيرٍ مع المرض.”
تجمّدت اللحظة.
سقطت الملعقة من يدها وارتطم صوتها بطاولة الخشب، فاهتزّ قلبها قبل أن تهتزّ القهوة في فنجانها.
حاولت أن تتنفّس، لكن الهواء كان ثقيلًا، كأنه يمرّ عبر حنجرةٍ مكسورة.
قرأت الخبر مرةً، ثم مرةً أخرى... ثم لم تعد ترى شيئًا سوى حروف اسمه.
ألقت الجريدة على الأرض، واستندت إلى الحائط كأنها تبحث عن شيءٍ تسند به العالم كله.
أغمضت عينيها، فانفتحت بوابة الذاكرة:
ضحكته التي كانت تُشعل صباحها، صوته في الإذاعة وهو يوبّخها برفقٍ حين تملؤها السوداوية، كلماته التي كانت تنضح بالحياة، وعبارته الأثيرة:
“قرة عيني أنتِ... اهدئي يا مجنونة، أنا بخير، حيٌّ أُرزق.”
ضحكت بسخريةٍ دامعة وقالت في سرّها:
“أيّ حياةٍ هذه يا أستاذ؟ لقد تركتني بين الكلمات التي لا تُقال.”
انكمشت على نفسها، تبكي بلا صوتٍ، كأنها تخشى أن يسمعها الغياب.
كان العالم كله ينهار في سطرٍ واحد،
وكانت تعرف أن بعض الرحيل لا يُدفن في التراب، بل يبقى حيًّا فينا، يتنفس بوجعٍ أبدي.
---
مرّ عامٌ بعد رحيله، عامٌ طويل كألف خطوةٍ في طريقٍ بلا وجهة.
لم تعد “هالة” هي الفتاة ذاتها؛ صارت أكثر هدوءًا، أكثر غموضًا، وأكثر قُربًا من الحزن الجميل الذي يُشبه الشعر.
وفي مساءٍ خريفيٍّ حزين، بينما كانت تُرتّب رفوف مكتبتها القديمة، سقط من بين الكتب ديوانٌ بلونٍ باهت، على غلافه اسمٌ مألوف:
“فتحي – حين مرّ الحب عابرًا.”
ارتجفت أصابعها.
جلست على الأرض تحت الضوء الأصفر، وقلبت الصفحات بحذرٍ يشبه التوجس من المعجزة.
كانت القصائد تتحدث بلسانها، تحمل ظلال ملامحها، وتستعير تفاصيل أيامهما الأولى.
كل بيتٍ كان ينطق باسمها دون أن يذكره.
وحين وصلت إلى الصفحة الأخيرة، تساقطت ورقةٌ مطويّة بإتقان.
فتحتها بخوفٍ ودهشة، لتجد خطّه مائلًا، مألوفًا، كأنه ما زال يميل نحوها:
“إلى هالة...
لم أجد شجاعة الوداع وجهًا لوجه.
تركت لكِ هذه الورقة بين القصائد، علّها تصلك يومًا ما.
كنتِ الفكرة التي لم تكتمل، والقصيدة التي لم أجرؤ على كتابتها.
كل ما قلته لكِ عن الأمل كان درسي الأخير لنفسي، لا لكِ.
سامحيني... إن كنتُ قد رحلتُ دون وداع، فليس لأنني نسيتك، بل لأن الوداع كان أثقل من الرحيل.
وإن مرّت بكِ نسمة باردة تشبه همسي، فاعلمي أنني ما زلت أزرع فسيلة حبّي في أرض قلبك، كما أمر عمرُ ذات يوم.”
سقطت الورقة من يدها، ثم عادت فاحتضنتها بقلبها.
لم تبكِ هذه المرة.
كان في عينيها بريقُ راحةٍ عميقة، ودمعةٌ هادئة تشبه السلام.
قالت وهي تبتسم بخفوتٍ:
“وأخيرًا كتبتها يا أستاذ... القصيدة التي تأخّرت عامًا كاملًا.”
أعادت الورقة إلى مكانها بين الصفحات، أغلقت الديوان برفقٍ كمن يطوي كفنه بحبّ،
ثم رفعت وجهها إلى السماء، وقالت في سرّها:
“رحلتَ... لكنك تركتَ فيَّ ما لا يموت.”
وفي زاوية الغرفة، كان الضوء الأصفر ينعكس على الديوان المفتوح،



تعليقات
إرسال تعليق