مستقبل علاقة التعليم بالتنمية المستدامة في الدول العربية دكتور عطية المسعودي محاضر الاقتصاد، والإحصاء، والبحث العلمي
مستقبل علاقة التعليم بالتنمية المستدامة في الدول العربية
دكتور عطية المسعودي
محاضر الاقتصاد، والإحصاء، والبحث العلمي
عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع والإحصاء
مقدمة: -
تكاد تُجمع مراكز البحوث العلمية في الدول العربية على أن هناك تحديات تواجه التعليم للقيام بدوره الرئيس نحو التنمية المستدامة ورغم أن الدول العربية وإن كانت قد حققت بعضاً من التطور إلى حد ما إلا أنها لا تزال بحاجة إلى خطوات أسرع للالتحاق بالتطور الحضاري السريع الذي حققته بعض الدول في هذا المجال الحيوي خاصة وأن هناك شبه اتفاق بين الأكاديميين العرب وبعض مراكز البحوث العلمية في عصرنا الحاضر على وجود ضرورات قصوى لعملية ربط التعليم بالتنمية المستدامة في المنطقة العربية خاصة بعد أن جاء في مؤشر التعليم العالي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس لعام (2016م-2017م) تدني ترتيب أغلب الدول العربية في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، فالمرتبة الأولى في العالم حصدتها سنغافورة، التي حصلت على 6.29 نقطة من (7) ثم فنلندا، وتليها هولندا في المرتبة الثالثة فيما صنفت ألمانيا في المرتبة الـ (20)، وجاءت فرنسا في المرتبة الـ (21)، واليابان في المرتبة الـ (23)، فيما حلت اسبانيا في المرتبة الـ (31).
التعليم وإن كان مردوده على المدى البعيد إلا أن تحقيق أهدافه لا تزال بحاجة إلى تسريع، وذلك لأنه من أهم ركائز أهداف التنمية المستدامة خاصة أن العالم دخل مرحلة تاريخية مهمة في الألفية الثالثة من تطوره، وهي مرحلة الثورة الصناعية الرابعة حيث التقنية العالية والتكنولوجيا ووسائل التواصل إلكترونيه والذكاء الاصطناعي والإبداع الذي هو تتويجٌ للبحث العِلميّ والتطوير التكنولوجيّ وهو من الذي ينتج لنا حلولاً جديدة للمُشكلات الرّاهنة أو المستقبلية التي تحتاجها ومن شأنها الدَّفع بالتنمية إلى الأمام والإبداع الحقيقي لذلك أصبح ّالبحث العلمي شرط ضروري، ولا يجب أن يقتصر على برامج العلوم الطبيعيّة فحسب، إنما يجب أن تشمل برامج العلوم الإنسانية والاجتماعية والسبب في ذلك أن المشكلات الاجتماعية والانسانية لها خصوصيتها، وبذلك لا يمكن إيجاد حلول لها دون أن ندرك أن أسبابها نابعة من المُجتمع وقضاياه فيستجيب لمتطلّباته ويُعالِج مشكلاته ونحن بحاجة إلى تفعيل مثل هذه البرامج في مؤسسات التعليم العالي.
لذا فإن المطلوب في الوقت الحاضر لجعل التعليم يساير التنمية المستدامة لعام 2030م، يجب أن يكون هدفه الأساسي، بناء اقتصاد المعرفة ومن ناحية مناهج التعليم بحاجة إلى إدخال مهارات التفكير العليا فيها منها تنمية التفكير النقدي والتفكير الإبداعي عند المتعلم وذلك لن يتحقق إلا بربط التعليم بأهداف المجتمع العليا وعلى ضوء ما تقدم فعملية التعليم والتعلم لهما ارتباط وثيق بالتنمية المستدامة وهي استثمار بالبشر وللبشر لذلك يجب أن نعي بأن تطوير التعليم تتطلب مشاركة مجتمعية يتم فيها الاستعانة بالكفاءات الوطنية التي تمتلك الخبرة في هذا المجال وذلك ليس فيه تقليل من الخبرات الموجودة إنما عدم جعل تطوير التعليم يقتصر على نخبة معينة.
كذلك يتساءل الكثيرون عن دور مؤسسات التعليم العالي في مجال البحث العلمي الذي يعد أحد أهم وظائف الجامعات الأساسية فبدونه تصبح الجامعة مجرد مدرسة تعليمية لعلوم ومعارف ينتجها الآخرون وليس مركزاً للإبداع العلمي وإنماء المعرفة وإثرائها ونشرها والسعي لتوظيفها لحل المشكلات المختلفة التي يواجهها المجتمع وتعد البحوث الجامعية التي تنجزها الجامعات أحد أهم مؤشرات الجودة والتمييز في سلم تصنيف الجامعات محلياً وإقليمياً ودولياً وباتت تشكل هذه البحوث مصدراً مالياً مهماً لتمويل أنشطة الجامعات من خلال المنح والهبات التي تحصل عليها من المؤسسات المختلفة لذا لابدّ من تحويل البحث العِلميّ والتطوير التكنولوجيّ إلى أدوات فعّالة في بناء الأمن والسلام، والعدالة، والمُشارَك. فالابتكار مطلوبٌ بشدّة لكي نحوِّل مَسار تطوّر التكنولوجيا في توظيفها لتوليد حلول للمشكلات والفجوات والتفاوتات المُتزايدة بين الشعوب والبلدان وإلى وسيلة لتعميم فوائد التنمية واحترام حقوق الإنسان وتجاوُز المعوّقات الجغرافيّة والاجتماعيّة والثقافيّة المُنتِجة للتفاوُت والتهميش.
إن «التقرير العربيّ العاشر للتنمية الثقافيّة» الصادر عن «مركز الفكر العربي» لعام (2016 -2017) م. يؤكد على أنه انطلاقاً من هذه الحقائق أصبحت هناك حاجة إلى التصدي للتحدّي الكَونيّ الرّاهن وهو تحدٍّ ثلاثيّ الأضلاع، يتألّف من الفقر، والحروب، والتدهور البيئيّ، بحيث يصل نحو تحقيق ما نرمي إليه باتّخاذ سياساتٍ سليمة، والعمل بوسائل متعدّدة، في طليعتها المَعرفة والإبداع ( ).
ماذا لو كان التعليم في العالم العربي يتعلق بالمعرفة والعمل والحوار مع الآخرين وتغيير العالم في ظل الثقافة الإسلامية؟
ماذا لو كان التعليم ممتعا وذا صلة بالحياة، ويعالج مشاكل عالمنا؟
ماذا لو استفاد كل مسلم من تعليم يعزز حياته الدينية والبيئية، وينصفه اجتماعيا ويراعيه ثقافيا واقتصاديا؟
ماذا لو استفاد كل مسلم من فرص حقيقية للتعلم مدى الحياة في عمله، وفي محيط مجتمعه المحلي الذي يعيش فيه؟
ماذا لو أعدت الدول العربية في ظل ثقافتها الإسلامية الداعية للسلام والألفة والمودة والإيثار والتعاون على البر والتطلع للمستقبل والإعمار والحفاظ على البيئة أنظمتها التعليمية بطريقة تضمن انضمام أبنائها إلى صفوف القوى العاملة، فيواجهوا الأزمات، ويتحلوا بالمرونة، ويصبحوا مواطنين مسؤولين متكيفين مع الواقع المتغير، ويتعرفوا على المشاكل المحلية وذات الجذور العربية ويصلوا إلى حلول لها، ويتعاملوا مع الثقافات الأخرى باحترام، ويوجدوا مجتمعا يتسم بالسلام والاستدامة؟ لو أمكننا ذلك، لامتلكنا مجتمعا إسلاميا متطورا وشعوبا واعية ومستقبلا ناميا وتنمية أكثر استدامة.
فلقد شاع مصطلح التنمية المستدامة في وقتنا الحاضر، ولكي نسايرها، وجب علينا أن نلقي نظرة على هدفها، الذي يكمن في تلبية احتياجات الحاضر دون إهمال احتياجات الأجيال القادمة مع الحفاظ على البيئة.
والتنمية المستدامة رؤية للتنمية تنطوي على احترام كل أشكال الحياة. هذا ما دعانا إليه ديننا الحنيف، يقول الله تعالى في كتابه الحكيم: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱠ ( ).
أما إذا نظرنا إليها من منظور التعليم فنجد أن الرؤية الاستراتيجية للتعليم حتى عام (2030م) في معظم الدول العربية تدور حول إتاحة التعليم والتدريب للجميع بجودة عالية دون التمييز، وفي إطار نظام مؤسسي، وكفء وعادل، ومستدام، ومرن، وأن يكون مرتكزا على المتعلم والمتدرب القادر على التفكير والمتمكن فنيا وتقنيا وتكنولوجيا، وأن يساهم أيضا في بناء الشخصية المتكاملة وإطلاق إمكانياتها إلى أقصى مدى لمواطن معتز بذاته، ومستنير، ومبدع، ومسؤول، وقابل للتعددية، يحترم الاختلاف، وفخور بتاريخ بلاده، وشغوف ببناء مستقبلها وقادر على التعامل تنافسيا مع الكيانات الإقليمية والعالمية، لذا نجد أن رؤية عدد من الدول العربية في مجال التنمية المستدامة للتعليم قد تضمنت عدة محاور في مقدمتها:
(أ) تحسين القدرة التنافسية لمنظومة التعليم بالدول العربية.
(ب) إتاحة التعليم الأساسي لجميع أبناء الوطن العربي.
(ت) العمل على محو الأمية الهجائية والرقمية.
(ث) كما تضمنت إتاحة رياض الأطفال وتمكين الأطفال في المراحل العمرية من مهارات التعليم المبكر عن طريق رفع نسبة القيد العام في مرحلة رياض الأطفال.
(ج) رفع نسبة الورش المحدثة والمطورة بالمدارس الفنية لتتواكب مع المناهج الجديدة.
(ح) إقرار منظومة جديدة تسمح بالتحاق طلاب التعليم الفني بالتعليم العالي في نفس التخصصات حتى درجات البكالوريوس والماجستير.
(خ) تمكين المتعلمين لتحويل أنفسهم والمجتمع الذي يعيشون به من خلال تنمية المعلومات، والمهارات، والمواقف، والكفاءات، والقيم المطلوبة لمعالجة تحديات الحاضر والمستقبل، إلى مواطنين يتسمون بالتفكير النقدي والمنهجي، والقدرة على تحليل وحل المشكلات، والإبداع، والعمل الجماعي، واتخاذ القرارات في مواجهة ألسنة التطرف، وفهم التحديات العالمية والمسؤوليات النابعة من هذه التوعية.
على الجانب الآخر لابد وأن نعي أنه لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة من خلال الحلول التكنولوجية، أو الأنظمة السياسية، أو الصكوك المالية وحدها، فنحن بحاجة إلى أن نغير طريقة تفكيرنا وعملنا، حيث تعاني منظومة التعليم في الدول العربية بمستوياته المختلفة من عدد من التحديات يمكن تلخيصها في تحديات تتعلق بإتاحة الخدمات التعليمية، والتي ترتبط بشكل كبير بتوفير التمويل اللازم من خلال الموازنات العامة للدول أو من خلال المشاركات المجتمعية، مع وخفض نسبة كثافة الطلاب بالفصول، بالإضافة إلى استيعاب الزيادة في عدد الطلاب المترتبة على معدلات النمو السكاني الحالية، ومن التحديات أيضا السعي نحو رفع مستوى جودة التعليم والذي يتطلب تخصيص موارد إضافية، وتدريب العنصر البشرى القائم على العملية التعليمية.
ولكن في ظل هذه التحديات لابد ألا نغفل الجهود التي سعت وما زالت تسعى إليها الدول العربية لتطوير أنظمتها التعليمية، لتتواكب مع التطور العالمي دون إهمال للثقافة الإسلامية والعادات والتقاليد العربية، ومن هذه الجهود:
أولًا: إعداد مناهج متكاملة تدعم الوعي السياسي والمشاركة الثقافية والسياسية بجميع المراحل التعليمية.
ثانيًا: التركيز على تطوير البنية التحتية للتعليم من خلال بناء وتجديد المدارس والهيكل الداخلي للنظام التعليمي.
ثالثًا: بناء قدرات المعلمين وتدريبهم بأحدث الطرق.
رابعًا: إعداد برنامج دعم جودة التعليم الذي يهدف إلى دعم القدرة المؤسسية للمدارس وتحسين الفاعلية التعليمية.
وفي النهاية يجب أن ندرك تمامًا أن منظومة التعليم يقع عليها عبء كبير في تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي تسعى الدول لتحقيقها في قطاعات مختلفة، حيث إن تطوير أي قطاع من القطاعات الاقتصادية أو الخدمية يرتبط بشكل وثيق بالعنصر البشري وقدرته على مواكبة كل حديث ومتطور وإضافة إبداعات جديدة وابتكارات حديثة؛ فدول العالم المتقدمة أصبحت تركز على «التعلم» وليس «التعليم» وتستخدم أدوات التكنولوجيا الحديثة والمتطورة في الارتقاء بالأدوات التعليمية المختلفة.
خلاصة كل ذلك أنه ما دامت عملية التنمية مستدامة ومستمرة فإن ذلك يفرض أن تكون عملية تطوير التعليم مستمرة تواكب عملية التنمية المستدامة وخاصة أننا في عصر تحدث فيه تحولات كبرى ينبغي مواجهتها وكما نحقق إنجازات في هذا المجال يجب كذلك تحقيق تغيرات في كثير من الأفكار والأخذ بالجديد منها لتوظيف مخرجات عملية التعلم والتعليم فيما تتطلبه التنمية المستدامة.
تعليقات
إرسال تعليق