الدكرورى يكتب عن عُروة بن الزُبير ( الجزء الثالث ) إعداد / محمـــد الدكـــرورى

الدكرورى يكتب عن عُروة بن الزُبير ( الجزء الثالث )
إعداد / محمـــد الدكـــرورى

نكمل الحديث فى الجزء الثالث ومع عُروة بن الزُبير بن العوام الأسدي، وهو تابعي ومحدث ومؤرخ مسلم، وقال العجلي: عروه تابعي ثقة، ورجل صالح، ولم يدخل في شيء من الفتن، وقال ابن خراش: هو ثقة، وقال ابن سعد: عروه هو ثقة، ثبتًا، مأمونًا، كثير الحديث فقيهًا، عالمًا، وقال سفيان بن عيينة: كان أعلم الناس بحديث السيده عائشة رضى الله عنها، ثلاثة القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، وكان عروة بن الزبير مُكثرًا من الصيام، فقد روى ابنه هشام أن أباه كان يصوم الدهر كله إِلا يوم الفطر ويوم النحر، وقيل أنه مات وهو صائم، كما كان عروة كثير التعبّد وقراءة القرآن، حيث كان يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف، ويقوم به الليل، وما ترك ذلك إلا ليلة قطعت رجله.

وكما عُرف عن عروه، صبره، وله في ذلك قصة مشهورة، حيث تقرّحت قدمه وساء حالها وهو في زيارة لبلاط الخليفة الوليد بن عبد الملك في الشام، فدعا له الخليفة بطبيب رأى ضرورة بترها، وعرض عليه أن يُسكّنه بشراب، فأبى عروة وصبر على قطعها، وما تغيّر وجهه، ثم جاؤه برجله المقطوعة في طست، فقال: إن الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط، وأنا أعلم، ثم حدث أن مات ابنه محمد وهو أحب بنيه إليه في نفس السفرة إلى الشام، حيث وقع من سطح على إسطبل، فرفسته بغلة حتى مات، فما زاد عن قوله: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، اللهم كان لي بنون سبعة، فأخذت واحدًا وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت طرفًا وأبقيت ثلاثة، فلك الحمد، وأيم الله. 

لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت طالما عافيت، وكما كان عروة بن الزبير سخيًا سمحًا، فقد روى ابن شوذب أنه كان لعروة له بستان من نخيل مُسوّرًا، حتى إن آن أوان الرُطب وطابت ثماره، كسر جانبًا من حائط بستانه ليجُوز إليه الناس، ويأكلون من ثماره، وكان إذا دخل بستانه يردد قوله تعالى: ( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله، لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا ) وقد عاصر عروة بن الزبير الكثير من صحابة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم،  وروى عنهم حتى عُدّ من المكثرين من رواية الحديث النبوي بين معاصريه، وقد روى عروة عن أبيه الزبير بن العوام وعن أمه أسماء بنت أبي بكر وعن خالته عائشة بنت أبي بكر وعن الكثير والكثر. 

من الصحابه الكرام رضوان الله عليهم، وقد كان عروه بن الزبير، يُعد الصدقة هدية تُهدى لله عز وجل، فيقول لأبنائه: لا يهدين أحدكم إلى ربه ما يستحي أن يهديه إلى عزيز قومه، فإن الله تعالى أعز الأعزاء، وأكرم الكرماء، وأحق من يختار له، وقد كان عروة من السبّاقين في تدوين الحديث الشريف، فقد روى ابنه هشام أن عروة أحرق كتبًا له يوم وقعة الحرة حتى لا يتخذ كتابًا مع القرآن، ثم ندم عروة على حرقها حيث قال: كنا نقول لا يُتخذ كتاب مع كتاب الله، فمحوت كتبي، فوالله لوددت أن كتبي عندي، إن كتاب الله قد استمرت مريرته، وكان عروة يُشجّع أبنائه على دراسة الحديث وحفظه، ويعتني بتبويبه بحسب أبواب الفقه ترتيبًا موضوعيًا، فقد روى ابنه هشام أن أباه كان يدعوه وإخوته. 

فيقول: لا تغشوني مع الناس، إذا خلوت فسلوني، فكان يحدثنا، يأخذ في الطلاق، ثم الخلع، ثم الحج، ثم الهدي، ثم كذا، وقد نسخ ابنه هشام كتب أبيه في دفاتر وصححها بمقابلتها على أصولها، حيث رُوي أن عباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير طلب من هشام أن يعطيه أحاديث أبيه عروة، فأخرج هشام دفترًا، ودفعه إلى عباد، وقال: في هذا أحاديث أبي، صححته، وعرفت ما فيه فخذه عنِّي، ولا تقل كما يقول هؤلاء حتى أعرضه، وقد جعلت ملازمة عروة لخالته السيده عائشة بنت أبي بكر، وروايته عن بعض أمهات المؤمنين كأم سلمة وأم حبيبة، وإدراكه لبعض الصحابة الذين شهدوا الغزوات والأحداث التي عاصرت بدايات الإسلام، أن أصبح عروة العُمدة التي اعتمد عليها كثير ممن جاء بعده 

من المؤرخين للسيرة النبوية والغزوات، وهو الباب الذي سمّاه المسلمون قديمًا المغازي والسير، وقد اشتهر عروة في عصره بسعة علمه بحوادث تلك الفترة مما دعا معاصريه من الخلفاء مثل عبد الملك بن مروان وابنه الوليد إلى مراسلته لسؤاله عن بعض الحوادث التاريخية، بالإضافة إلى ردود عروة على رسائل الخلفاء، فقد حدّث عروة بعض طلابه ببعض الحوادث التاريخية التي ارتبطت بعضها بتفسير وتوضيح بعض الآيات القرآنية، والتي تناقلها عنه طلبته، وانساقت في كتب التاريخ، لذا اعتبره الواقدي أول من صنف في باب المغازي، ولم يكن ما جمعه عروة من الحوادث التاريخية تأريخًا بمعناه المعاصر، وإنما كان في صيغة روايات كروايات الحديث النبوي الشريف. 

وقد نقلها عنه الكثيرون أبرزهم ابنه هشام وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي الذي نزل مصر، وحدث بها بكتاب المغازي لعروة بن الزبير وابن شهاب الزُهري، وتعد أشهر روايات مغازي عروة عن طريق رواية عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، ورواية الزُهري عن عروة، وقد حفظ عبد الرزاق الصنعاني في كتابه المصنف في باب كتاب المغازي نسخة من مرويات معمر بن راشد عن الزُهري عن مغازي عروة، وقد قطعها أبوابًا بحسب الوقائع، وكما حصر المؤرخ عبد العزيز الدوري في كتابه نشأة علم التاريخ عند العرب، الأحداث التاريخية التي نقلها المؤرخون عن عروة فوجدها تشمل بدايات بعثة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. 

والهجرة إلى الحبشة، وسبل مقاومة قريش لدعوة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، في مكة، والهجرة النبوية، وسرية عبد الله بن جحش، وغزوة بدر، وغزوة الخندق، وغزوة بني قريظة، وغزوة بني المصطلق، وصلح الحديبية، وغزوة مؤتة، وفتح مكة وغزوة حنين، وغزوة الطائف، وبعض رسائل النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، إلى كبار رجال قبائل الجزيرة العربية، ووفاة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ووفاة خديجة بنت خويلد، وزواج النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، من السيده عائشة، وبعض أحداث فترة الخلفاء كإنفاذ بعث أسامة بن زيد، وتجهيز جيوش حروب الردة، ومطالبة العباس بن عبد المطلب وفاطمة بنت محمد من أبي بكر ميراثهما 

من النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ورد أبي بكر، ومرض أبي بكر ووفاته، وذهاب عمر بن الخطاب لأيلة، وأحداث موقعة الجمل، وكان عروه بن الزبير، لحرصه على العلم، ومعرفته بما في العلم من فوائد جمة، وما في الجهل من عيوب ومساوي، فكان يوصي أبنائه ويحضهم على طلب العلم قائلاً لهم: يا بني تعلموا العلم، وابذلوا له حقه، فإنكم إن تكونوا صغار قوم، فعسى أن يجعلكم الله بالعلم كبراءهم، ثم يقول: واسوأتاه، هل في الدنيا شيء أقبح من شيخ جاهل، ومن موقف تعلمه من حكيم بن حزام حين قتل أبوه الزبير بن العوام بعد وقعة الجمل، وسمع ما سمع من الناس ما يكرهه ويؤذيه، فذهب إلى حكيم بن حزام ليعرف مثالب قريش فيقتص منهم ويؤذيهم كما آذوه. 

وكان قد دخل عليه هو وأخوه المنذر بن الزبير وعندما ذكرا له ما أرادا، أوسعهم ضربًا ثم قال أعندي تلتمسان معايب قريش ايتدعا في قومكما يكف عنكما مما تكرهان فانتفعنا بأدبه، لذا كان يوصي أبناءه بلين الجانب، وطيب الكلام، وبشر الوجه فيقول: يا بني، مكتوب في الحكمة، لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك طلقًا، تكن أحب إلى الناس ممن يبذل لهم العطاء، وكان عروه بن الزبير، من شكره على نعم الله تعالى: أنه كان لا يُؤتى أبدًا بطعام ولا شراب حتى الدواء، فيطعمه أو يشربه حتى يقول: الحمد لله الذي هدانا وأطعمنا وسقانا ونعَّمَنا، الله أكبر، اللهم أَلِفَتْنَا نِعْمَتُكَ بكل شيء، فأصبحنا وأمسينا منها بكل خير، نسألك تمامها وشكرها، لا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، إله الصالحين ورب العالمين، 

الحمد لله، لا إله إلا الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار" وكان ناصحًا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، فإذا رأى الناس يجنحون إلى الترف، ويستمرئون النعيم يذكرهم بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من شظف العيش، وخشونة الحياة، وكان يقول: رب كلمة ذل احتملتها أورثتني عزاء طويلاً، ويقول أيضًا: إذا رأيت الرجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيته يعمل السيئة فاعلم أن لها عنده أخوات، فإن الحسنة تدل على أختها، وإن السيئة تدل على أختها، وكان الناس يذكرونه بالخير دائمًا، فيقول جرير بن عبد الحميد عن هشام بن عروة: ما سمعت أحدًا من أهل الأهواء يذكر عروة إلا بخير. 


وظل يعرف بين الناس بعلمه، وحسن أخلاقه وسخاءه حتى وافته المنية سنة أربعه وتسعين من الهجره، عن عمر يناهز السبعين عامًا، وقيل أنه قد مات عروة بن الزبير رضي الله عنهما، في نهاية القرن الأول الهجري، واختُلف في سنة وفاته، لكنها في العشر الأخيرة من هذا القرن، وقال هشام بن عروة بن الزبير، إن أباه مات وهو صائم، فلم يكن يفطر إلا أيام العيد والتشريق، فجعلوا يقولون له أفطر فلم يفطر، وهكذا قلقد برهن هذا الإسلام العظيم بما تزاحم في تاريخه الطويل من أبطال ورجال على جدارته الفذة في تقديم النماذج الصالحة للقدوة، وهم كثرة كثرة، وقد أشرق بهم تاريخ الإسلام وازدانت بهم عصوره، ولا يحتاج الإنسان لشيء سوى أن يفتح عينيه، ويقرأ ماحفظه التاريخ عن الأمة العظام في العلم والتقى والزهد والورع.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدى و العيون بقلم الشاعر هادي صابر عبيد

حرب السادس من أكتوبر: انتصار الإرادة والكرامة العربية بقلم/مرڤت رجب

الوحدة المنتجة المدرسية تنير سماء الشروق كتب عاطف محمد