أثرُ كورونا على العباداتِ . بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي
أثرُ كورونا على العباداتِ .
بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي
كنتُ قد أشرتُ في مقالٍ سابقٍ إلى أنَّ فيروسَ كورونا لا يعدو أن يكونَ جنديّاً إلهياً يحملُ رسالةً إلى الخلقِ مؤداها : " أنَّ البشريةَ وإن بلغتْ الغايةَ القصوى في التقدمِ العلمي ، وإنْ نفذتْ من أقطارِ السماواتِ والأرضِ فلن تستطيعَ الخروجَ عن ربوبيتها لله ، وخضوعها لسلطانها ، وأنَّ اللهَ بحوله وطوْله قادرٌ على أن يردّها إلى حظيرته الإلهيةِ مهما كانتْ درجةُ شرودها " .
ومما تجدرُ الإشارةُ إليه ، والتنويهُ عليه أن هذا الفيروسَ على ضآلته إلا أنه قد أثّرّ على البشريةِ أيّما تأثيرٍ على كافةِ الأصعدةِ والمستويات سواءً أكانتْ سياسيةً أو اقتصاديةً أو اجتماعيةً ، أو دينيةً ... إلخ ، وفي هذا المقالِ سنلقي الضوءَ على تأثيره على بعضِ العباداتِ التي كانَ له كبيرُ أثرٍ عليها ، ومن أهمها ما يلي :
1- الآذانُ الذي يُعدُّ مُظِهراً لشعائرِ الإسلامِ ، والذي اشتملَ على قلةِ ألفاظه - كما يقولُ القرطبيُّ - على مسائلِ العقيدةِ ؛ لأنه بدأ بالأكبريةِ ، وهي تتضمنُ وجودَ اللهِ وكمالهِ ، ثم ثنّى بالتوحيدِ ، ونفي الشركِ ، ثم بإثباتِ الرسالةِ لمحمد - ﷺ- ، ثم دعا إلى الطاعةِ المخصوصةِ عقبَ الشهادةِ بالرسالةِ ؛ لأنها لا تُعرفُ إلا من جهةِ الرسولِ ، ثم إلى الفلاحِ وهو البقاءُ الدائمِ ، وفيه الإشارةُ إلى المعادِ ، ثم أعادَ ما أعادَ توكيداً ..." ابنُ حجرِ العسقلاني : فتحُ الباري ج/2 ص 77 أقولُ : لقد أثّرَ فيروسُ كورونا على الآذانِ حيثُ استبدلنا قولنا : حيّ على الصلاةِ بقولنا : صلّوا في رحالكم ، أو صلّوا في بيوتكم - تلك العبارةُ التي يُشرعُ لنا عند سماعها أن نقولَ : لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ - هذا بعد الشهادتينِ ، أو بعدَ الانتهاءِ من الآذانِ ، وإن كان كلاهما جائزاً إلا أن الأولى أن نقولها بعد الانتهاءِ من الآذانِ ليبقى نظمُ الآذانِ على وضعه .
2- ذكرُ اللهِ - تعالى - وتسبيحه ، إذ بسببِ وجودِ هذا الفيروسِ تعطلّتْ المساجدِ عن القيامِ بمهمتها التي أُسستْ من أجلها ، والتي أشارَ إليها القرآنُ في قوله تعالى : { في بيوتٍ أذنَ اللهُ أن تُرفعَ ويُذكرَ فيها اسمه يسبّحُ له فيها بالغدوِّ والآصالِ رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيْعٌ عن ذكرِ اللهِ وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ يخافون يوماً تتقلبُ فيه القلوبُ والأبصارُ } سورة النور آية - 37 فما عادت جمعاتٌ تُقامُ ، ولا صلواتٌ تُؤدّى ، بل عبراتٌ تُذرفُ ، وأزيزٌ كأزيزِ المرجلِ يُسمعُ من قلوبٍ مُعلّقةٍ بالمساجدِ .
3- العمرةُ إحدى مكفّراتِ الذنوبِ ، وسببٌ من أسبابِ حطِّ الخطيئاتِ ، وإذهابِ السيئاتِ ، قالَ - ﷺ - : " العمرةُ إلى العمرةِ كفارةٌ لما بينهما ، والحجُ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنةُ " رواه الشيخانِ .
وكانَ من أثرِ كورونا تعطيلُ شعائرها ، إذ وقفَ الفيروسُ حائلاً دونَ وصولِ المعتمرينَ إلى البيتِ الحرامِ الذي جعله اللهُ قياماً للناسِ وأمناً ، وحُرمَ قُصّاده من مضاعفةِ الحسناتِ ، وسكبِ العبراتِ ، ومسحِ الحجرِ الأسودِ والركنِ اليمانيّ اللذينِ يحطّانِ الخطايا حطّاً ، وكذلك استلامه الذي أخبرَ النبيُّ - ﷺ - عن فضله بقوله : " والله ليبعثه اللهُ يومَ القيامةِ ، له عينانِ يبصرُ بهما ، ولسانٌ ينطقُ به ، يشهدُ على من استلمه بحقٍّ " رواه الترمذي .
4- السلامُ والمصافحةُ اللذان هما من آدابِ الإسلامِ وأخلاقه الكريمةِ ، ويعبّران بدورهما عن المحبةِ والمودةِ بين المتصافحين ، كما أنهما يذهبان الغلَّ والحقدَ والكراهيةَ من قلوبِ المسلمينَ ، ، وفضلهما عظيمٌ ، وثوابهما جزيلٌ ، قال - ﷺ - : " ما من مسلميْنِ يلتقيانِ فيتصافحانِ إلا غُفِرَ لهما قبلَ أن يفترقا " رواه أبو داود .
ومن الجديرِ بالذكرِ أنَّ هذه الآداب قد طالها فيروسُ كورونا ، وحالَ دونَ وجودها ، فقلّما تجدُ متصافحيْنِ ، أو متعانقيْنِ إذ دخلَ الرعبُ في قلوبِ المسلمين ، وسيطرَت الوساوسُ ، والخوفُ من انتقالِ العدوى عليهم ،وتعطلتْ المصافحة وهي - كما يقولُ النووي - سنةٌ مجمعٌ عليها عندَ التلاقي " ابنُ حجرِ العسقلاني : فتحُ الباري شرحُ صحيح البخاري ج /11 ص 55
5- صلةُ الرحمِ والتزاورُ في اللهِ ، جاءَ عن أبي هريرةَ عن النبي - ﷺ - : " أنَّ رجلاً زارَ أخاً له في قريةٍ أخرى ، فأرصدَ اللهُ له على مدرجته ملكاً فلمّا أتى عليه ن قالَ : أين تريدُ ؟ قال : أريدُ أخاً لي في هذه القريةِ ، قالَ : هل لك عليه من نعمةٍ تَرُبُّها - يعني مصلحةٌ تنمّيها وتثمّرها - ؟ قالَ : لا ، غيرَ أنّي أحببته في اللهِ - عزَّ وجلَّ - ، قالَ : فإنّي رسولُ اللهِ إليكَ ، بأنَّ اللهَ قد أحبّكَ كما أحببته فيه " رواه مسلمٌ .
فمن المؤسفِ أن يقلَّ التزاورُ في اللهِ ، أو ينعدمُ بالكليةِ خشيةَ الإصابةِ بالفيروسِ ، مع أنَّ التجالسَ في اللهِ ، والتزاورَ فيه من موجباتِ محبّةِ اللهِ - سبحانه وتعالى - ، فمن حديثِ معاذِ بنِ جبلٍ - رضي اللهُ عنه - قالَ : سمعتُ رسولَ اللهِ - ﷺ - يقولُ : قالَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - وجبتْ محبتي للمتحابين فيَّ ، والمتجالسينَ فيَّ ، والمتزاورينَ فيَّ ، والمتبادلينَ فيَّ " رواه الإمامُ أحمد في مسنده .
6- عيادةُ المرضى التي قالَ فيها رسولُ اللهِ - ﷺ - : " ما من رجلٍ يعودُ مريضاً ممسياً إلا خرجَ معه سبعونَ ألف ملكٍ يستغفرونَ له حتى يصبحَ ، وكانَ له خريفٌ - أي بستانٌ - في الجنةِ ، ومن أتاه مصبحاً خرجَ معه سبعونَ ألف ملكٍ يستغفرون له حتى يمسي ، وكانَ له خريفٌ في الجنةِ " صححه الألباني في السلسلةِ الصحيحةِ .
وبالرغمِ من عِظمِ فضلِ عيادةِ المرضى إلا أنها كادتْ أن تندثرَ في ظلِّ الأزمةِ الراهنة ، وفاتنا الخيرُ الكثيرُ ، والثوابُ الجزيلُ ، ويكفي أننا فقدنا عنديةَ اللهِ - عزَّ وجلَّ - ، ففي الحديثِ القدسي : " إنَّ اللهَ - عزَّ وجلَّ - يقولُ يومَ القيامةِ : يا ابنَ آدمَ ، مرضتُ فلم تعدني . قالَ : يا ربَّ ، كيفَ أعودك وأنت ربُّ العالمينَ ؟ قالَ : أما علمتَ أنَّ عبدي فلاناً مرضَ فلم تعده ، أما علمتَ أنّك لو عدته لوجدتني عنده ... " رواه مسلمٌ .
هذه بعضُ آثار كورونا في بعضِ العباداتِ ، وإذا كان هذا الفيروسُ قد أثّرَ على الجانبِ التشريعي فإنَّ رذاده قد طالَ الجانبَ العقائدي أيضاً حيثُ قد أثّرَ في يقينِ العبدِ بربه وثقته به ، وحسنِ توكلهِ عليه ، ونسينا أو تناسينا أنَّ ما أصابنا لم يكن ليخطئنا ، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا ، فأخذنا بأسبابِ الحيطةِ والحذرِ والتوقّي ، وهذا مقبولٌ شرعاً ، ولكنَّ المرفوضَ والمذمومَ المبالغةُ فيها والاعتمادُ عليها ؛ لأنَّ الالتفاتَ إلى الأسبابِ ، واعتبارها مؤثرةً في المسبباتِ شركٌ في التوحيدِ ، فلن يصيبنا إلا ما كتبَ اللهُ لنا ، ولن تموتَ نفسٌ حتى تستوفي رزقها وأجلها ، والعدوى لا تنتقلُ بذاتها بل بإذنِ الله ، فمن أخذَ بالأسبابِ واعتمدها فقط ، وألغى التوكلَ على اللهِ ، فهو مشركٌ ، ومن توكلَ على اللهِ ، وألغى الأسبابَ فهو جاهلٌ مفرّطٌ مخطئٌ ، والمطلوبُ شرعاً الجمعُ بينهما .
وأختمُ مقالي بالتضرعِ إلى اللهِ قائلاً :
تعليقات
إرسال تعليق