وقفات مع القرآنِ الكريمِ ( ) . بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي

وقفاتٌ مع القرآنِ الكريمِ ( ٣ ) .

بقلم عمران صبره الجازوي

إنَّ القرآنَ الكريمَ هو كلامُ ربِّ العالمين ، وحبلهُ المتينُ ، وصراطهُ المستقيمُ ، وهو الذكرُ الحكيمُ الذي لا تزيغُ به الأهواءُ ، ولا تلتبسُ به الألسنةُ ، ولا تتشعبُ معه الآراءُ ، ولا يشبعُ منه العلماءُ ، ولا يملّه الأتقياءُ ، ولا يخلقُ على كثرةِ الردِّ ، ولا تنقضي عجائبه ، من عِلمَ علمه سبقَ ، ومن قالَ به صدقَ ، ومن حكمَ به عدلَ ، ومن عمِلَ به أُجِرَ ، ومن دعا إليه هُديَ إلى صراطٍ مستقيمٍ ، وهو الكتابُ المهيّمنُ ، والمُصدّقُ لما قبله ، وهو الكتابُ الذي حوى بين دفتيّه معالمَ المنهجِ الإلهي المُوصّلُ إلى اللهِ بيْدّ أننا تنكّبنا الصراطَ المستقيم ، واستخدمنا القرآنَ الكريمَ في غيرِ ما أُنزلَ له ، واتخذه بعضنا مهجوراً ، وأرادَ به آخرون الدنيا ضاربينَ الصفحَ عن الآخرة ؛ لذلك كان لابد لنا من وقفاتٍ مع القرآنِ الكريمِ ؛ لتتضحَ بعضُ الأمورِ المُلتبسةِ ، وتُحلُّ بعضُ المسائلِ المُشكِلةِ ، وجاءت هذه الوقفاتُ على النحوِ التالي :

- الوقفةُ الخامسةُ " قراءةُ القرآنِ للأمواتِ " :
لم ينزلْ القرآنُ الكريمُ للأمواتِ ، بل نزلَ للأحياءِ ؛ لينتفعوا به في دنياهم ، وليصلوا باتباعِ منهجه إلى اللهِ في أخراهم ، قال تعالى: { ... إن هو إلا ذكرٌ وقرآنٌ مبينٌ * لينذرَ من كانَ حيَّاً ويحقَّ القولُ على الكافرينَ } سورة يس الآيات 69-70 ، ولكننا جعلناه للأمواتِ يُقرئُ على قبورهم تارةً ، وفي بيوتهم ، أو سرادقاتِ عزائهم تارةً أخرى ، وهذا من المبتدعاتِ التي لم يفعلها النبيُّ - ﷺ - ، ولا صحابته - رضوانُ اللهِ عليهم - فقد كان النبيُّ -ﷺ - إذا فرغّ من دفنِ الميّتِ وقفَ عليه ، فقالَ : استغفروا لأخيكم ، وسلوا له التثبيتَ ، فإنَّه الآنَ يُسألُ " رواه أبو داودُ ، فلم يقرأ النبيُّ - ﷺ - عليه قرآناً ، ولا أمرَ أحداً بقراءةِ القرآنِ ، ولا قرأَ أحدٌ من تلقاءِ نفسه ، وأقرّه النبيُّ - ﷺ - على ذلك ، فلو كانَ خيراً لسبقنا إليه رسولُ اللهِ - ﷺ - فلقد كانَ أخشانا للهِ ، وأتقانا له ، وليسَ شيءٌ يقرّبنا من الجنةِ ،ويبعدنا عن النارِ إلا وقد أمرنا به ،وليسَ شيءٌ يقرّبنا من النارِ ، ويبعدنا عن الجنةِ إلا وقد نهانا عنه ، ولم يلتحقْ بالرفيقِ الأعلى إلا بعدَ أن أكملَ اللهُ على يديه الدينَ ، وأتمَّ به النعمةَ ، ومحالٌ أن يكونَ ذلك من الدينِ ، ولم يبينه لنا - ﷺ - ، بالإضافةِ إلى قوله - ﷺ - : " إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عمله إلا من ثلاثةٍ : " إلا من صدقةٍ جاريةٍ ، أو علمٍ يُنتفعُ به ، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له " رواه مسلمٌ ، فقالَ - ﷺ - : يدعو له ، ولم يقلْ : يقرأُ له .

* شبهةٌ وجوابها : 

قد يقولُ قائلٍ : أنا لا أقرأُ للميّتِ القرآنِ ، ولكني أقرؤه لأهِبَ له ثوابَ قراءته . 
والجوابُ : أنَّ مدارَ العباداتِ على الاتباعِ لا الابتداعِ ، ولا مجالَ للقياسِ والاستحسانِ العقلي حالةَ وجودِ نصٍ ، وعليه فهذه الشبهةُ باطلةٌ لما يلي : 

1- أنَّ من شروطِ قبولِ العملِ عندَ اللهِ المتابعةَ ، أي أن نكونَ متابعينَ فيه لرسولِ اللهِ - ﷺ - ، وإلا كان مردوداً على صاحبه ، قال - ﷺ - : " من عملَ عملاً ليسَ عليه أمرنا فهو ردُّ " أخرجه الشيخان ، وردُّ ، أي مرودٌ لمخالفته هديه وسنته - ﷺ - ، وإذا كان ذلك كذلك ، فقراءةُ القرآنِ للميّتِ ، أو هبةُ ثوابه له مرودٌ . 

2- أنَّ سنةَ رسولِ اللهِ - ﷺ - تنقسمُ إلى قسمينِ : فعليةٍ ، وتركيةٍ ، فما فعله - ﷺ - سنّةٌ ، وما تركه سنّةٌ ، وقراءةُ القرآنِ للميّتِ ، أو إهداءُ ثوابه للميّتِ مما تركه النبيُّ - ﷺ - ولم يفعله ، ولسنا أعلمَ من رسولِ اللهِ -  ﷺ - ، ولا أحرصَ على رضا اللهِ منه ، فلنفعلْ ما فعله - ﷺ - ، ولنتركْ ما تركه ؛ ليتحققَ فينا قولُ اللهِ تعالى : { لقد كانَ لكم في رسولِ اللهِ أُسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخرَوذكرَ اللهَ كثيراً } سورة الأحزاب آية- 21 

* تنبيهٌ : 

الابنُ ليسَ في حاجةٍ إلى أن يهبَ ثوابَ القراءةِ لوالديه ؛ لأنَّ كلَّ عملٍ صالحٍ يفعله الابنُ يأخذُ والداه نفسَ الأجرِ دونَ أن ينقصَ من أجره شيئاً ، فالولدُ من كسبِ أبيه . قالَ - ﷺ - : " إنَّ أطيبَ ما أكلَ الرجلُ من كسبهِ ، وإنَّ ولده من كسبهِ " رواه أحمدُ والنسائي وابنُ ماجه . 
وفي ذلك يقولُ ابنُ تيمية - رحمه اللهُ - : 
فَذَكَرَ الْوَلَدَ، وَدُعَاؤُهُ لَهُ خَاصَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ كَسْبِهِ، كَمَا قَالَ: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} سورة المسدُ آية -2 قَالُوا: إنَّهُ وَلَدُهُ. وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ " . فَلَمَّا كَانَ هُوَ السَّاعِي فِي وُجُودِ الْوَلَدِ كَانَ عَمَلُهُ مِنْ كَسْبِهِ ..." ابنُ تيمية : مجموع الفتاوى ج/3 ص 31 .

- الوقفةُ السادسةُ " اتخاذُ القرآنِ مهجوراً  " :

قالَ تعالى : { وقالَ الرسولُ يا ربِ إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآنَ مهجوراً } سورة الإسراء آية - 30 شكى الرسولُ - ﷺ - من لم يؤمنْ من قومه إلى اللهِ - تعالى - قائلاً : إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآنَ مهجوراً ، أي قالوا فيه غيرَ الحقِّ من أنَّه سحرٌ وشعرٌ ، وتركوه وخلّفوه وراءهم ظِهريّاً ، وها هو هجره يتجدّدُ في زماننا هذا ، وتتعدّدُ مظاهره فلقد هُجرَ القرآنُ الحكيمُ تلاوةً ، وزهدَ الكثيرُ في حفظه وتدارسه ، وهُجرَ استماعاً وتدبّراً ، وقست القلوبُ ، وتحجّرتْ العيونُ ، فلا قلبٌ يخشعُ ، ولا عينٌ تدمعُ ، ولا جوارحُ تنقادُ فتخضعُ ، وهُجرَ عملاً فلم نأتمرُ بأوامره ، ولم ننتهِ عن نواهيه ، واستعضنا عن منهجه بمناهجَ وضعيةٍ ، وتحاكمنا إليها متّهمينَ شريعته بالضعفِ والعجزِ عن مواكبةِ التقدم الحضاري ، وهُجرَ استشفاءً وتداوياً ، ووليّنا وجوهنا شطرَ السحرةِ والعرّافينَ والدجّالين متلمّسينَ عندهم الشفاءَ والدواءَ ، وهيهاتَ . 


هذه هي أنواعُ هجرِ القرآنِ الكريمِ الذي ما نزلَ ليُهجرَ بل ليُعظّمَ ويُطبّقَ ، وللهِ درُّ أسلافنا العِظامِ الذين أقبلوا عليه تنظيراً وتطبيقاً ، واستضاءوا بنوره ، واسترشدوا بهديه ، فدانت لهم الدنيا بأسرها ، وتبوأوا مكانةَ الصدارةِ والريادةِ ، وصنعوا أعظمَ حضارةٍ عرفها التاريخُ بيْدَ أنها رجعتْ القهقرى، وإذا ما أردنا أن نعيدها سيرتها الأولى فعلينا أن نتّبعَ سننهم ، وننسجَ على منوالهم .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدى و العيون بقلم الشاعر هادي صابر عبيد

حرب السادس من أكتوبر: انتصار الإرادة والكرامة العربية بقلم/مرڤت رجب

الوحدة المنتجة المدرسية تنير سماء الشروق كتب عاطف محمد