تأمينُ مستقبلِ الأبناءِ . بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي
تأمينُ مستقبلِ الأبناءِ .
بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي
إنَّ الأبناءَ لهم أعزُّ ما يملكُ الآباءُ ، فهم ثمراتُ الفؤادِ ، وفلذاتُ الأكبادُ ، وقرَّةُ الأعينِ ؛ لذا نجدهم يتعبان ليريحوهم ، ويشقيان ليسعدوهم ، ويجوعان ليشبعوهم ... إلخ ، وهما حملةُ همومهم في حياتهما أو بعد موتهما يبذلان قصارى جهدهما ، وكلَّ ما في وسعهما ليوفّرا لهم حياةً كريمة ، وإن كانا لم يقدّما لهم كلَّ ما يطلبونه فإنهما يقدمان كلَّ ما يملكونه ، فيظلُّ عطاءُ الآباءِ ديّناً يطوّقُ أعناقَ الأبناءِ ، ويأبى على السدادِ .
وإن تعجبْ فعجبٌ لشأنهما فبعدَ أن يؤديا رسالتهما أتمَّ الأداءِ وأكمله تعتورهما الهمومُ ؛ لانشغالهما بمستقبلِ الأبناءِ الذي آليا على أنفسهما أن يؤمّناه قبلَ أن يلتحقا بالرفيقِ الأعلى ؛ وما ذاك إلا لفرطِ حبهما لهم ، وشفقتهما عليهم ، وللهِ درُّ القائلِ :
وإذا رحمتَ فأنت أمٌّ أو أبُ
هذان في الدنيا هما الرحماءُ
والناظرُ في أحوالِ الآباءِ حيالِ هذه القضيةِ ليجدهم طرائقَ قدداً :
فمنهم من يتركُ لأبنائه ديناً يقيهم ، ومنهم من يتركُ لهم دنيا تطغيهم ، ومنهم من يجمعُ لهم بين الدينِ والدنيا ، ومنهم من يتركهم هملاً لا ديناً لهم أبقى ، ولا دنيا لهم ادّخرَ ، فإلى اللهِ المشتكى .
والقسمُ الأولُ : أكثرهم يقيناً بربه ، وأحسنهم توكلاً عليه ، إذ لمّا أصابهم القلقُ على أبنائهم ، واعتراهم الخوفُ عليهم من بعدهم شمّروا عن سواعدِ الجدِّ في تحقيقِ تقوى اللهِ - عزَّ وجلَّ - والعملِ بما يرضيه أقوالاً وأفعالاً ؛ امتثالاً لقوله تعالى : {وليخشْ الذين لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا اللهَ وليقولوا قولاً سديداً } سورة النساء آية -9
ولقد ضربَ سلفنا الصالحُ - رضي اللهُ عنهم - أروعَ الأمثلةَ في تطبيقِ هذه الآيةِ ، وترجمتها إلى واقعٍ عمليّ ، فهاهو أبو بكرٍ - رضي اللهُ عنه وأرضاه - يأتي بكلِ ماله عندما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتصدقِ ، وعندئذٍ سأله النبي - ﷺ - ما أبقيتَ لأهلك ؟ فأجابه قائلاً : أبقيتُ لهم اللهَ ورسوله . رواه الترمذي ، وأبو داودُ .
وكان ابنُ مسعودٍ - رضي اللهُ عنه وأرضاه - عندما يصلي من الليلِ وابنه الصغيرُ نائمٌ بجواره ينظرُ إليه قائلاً : من أجلك يا بنيّ ، ويتلو - وهو يبكي - قوله تعالى : { وكان أبوهما صالحاً } سورة الكهف آية - 82
وهاهو عمرُ بنُ عبد العزيزِ - رضي اللهُ عنه - وقد سأله الناسُ ، وهو على فراشِ الموتِ : ماذا تركت لأبنائك ؟
فأجابَ : تركتُ لهم تقوى اللهِ ، فإن كانوا صالحين فاللهُ - تعالى - يتولى الصالحين ، وإن كانوا غير ذلك فلن أتركَ لهم ما يعينهم على معصيةِ الله .
وحُكي أنَّ عبيدَ اللهِ بنَ عتبةَ بنَ مسعودٍ باع داراً بثمانينَ ألف درهمٍ ، فقيل له : اتخذْ لولدك من هذا المالِ ذخراً . فقالَ : أنا أجعلُ هذا المالَ ذخراً لي عند اللهِ - عزَّ وجلَّ - ، وأجعلُ اللهَ ذخراً لولدي ، وتصدّقَ به .
أما القسمُ الثاني : الذين تركوا لأبنائهم دنيا تطغيهم ، ولم يتركوا لهم ديناً يقيهم ، فهؤلاء قد أضاعوهم ؛ لأن الدنيا بلا دينٍ مفسدةٌ لقلوبهم ، ومعكّرة لصفوِ نفوسهم ، وليتهم تركوا لهم قليلاً يكفيهم بدلاً من كثيرٍ يلهيهم ، أو قليلاً يؤدون شكره بدلاً من كثيرٍ لا يطيقونه .
أما القسمُ الثالثُ : الذين جمعوا لأبنائهم بين الدينِ والدنيا ، فهؤلاء قد أحسنوا وما أساءوا ، وأعطوا وما ضنّوا ، إذ تركوا لأبنائهم ما يعينهم على طاعةِ اللهِ ، وإن كانوا أقلَّ درجةً من أصحابِ القسمِ الأولِ ؛ لأنَّ النبي - ﷺ - عندما أمر صحابته - رضوان اللهِ عليهم - بالتصدقِ وافقَ ذلك مالاً عند عمر بن الخطابِ - رضي اللهُ عنه - فقالَ : اليومَ أسبقُ أبا بكرٍ إن سبقته يوماً ، قال : فجئتُ بنصفِ مالي ، فقالَ رسولُ اللهِ - ﷺ - : ما أبقيتَ لأهلك ؟ قلتُ : مثله ..." ، فكان أقلَّ درجةً من أبي بكرٍ - رضي اللهُ عنه - الذي جاءَ بمالهِ كلّه مُخلّفاً لأبنائه اللهَ ورسوله ،
ولله درُّ القائلِ :
ما أحسنَ الدينَ والدنيا إذا اجتمعا
لا باركَ اللهُ في دنيا بلا دينِ
أما القسمُ الرابعُ : الذين لم يتركوا لأبنائهم ديناً ولا دنيا ، فهؤلاء أضاعوهم ، وجعلوهم لقماتٍ سائغةً للشياطين فأكلوهم ، وكفى بالمرءِ إثماً أن يُضيّعَ من يعولُ .
تعليقات
إرسال تعليق